فضاء حر

لكأنه ناداه حتى استوقفه ثم ركض باتجاهه

 يمنات

هذه هي أقسى وأغرب "مشاركة منشور" يمكن أن يقوم بها المرء يوما في صفحته على موقع "فيسبوك". هذا المنشور (أدناه) لـ"خطاب الصوفي"، أحد الشبان الاشتراكيين الذين تعرفت عليهم خلال الثورة، عبر التواصل الهاتفي أو الالكتروني، ولكن للأسف دون أن نلتقي. كان خطاب أحد الناشطين في ثورة الشباب السلمية، إنه من جيل الشبان اليمنيين الذين صنعوا أحداث ثورة 2011، واختبروا في نهاية المطاف معنى ومذاق "الخسارة" و"الخذلان".

رأى "خطاب الصوفي" الثورة، التي أطلقها هو ورفاقه، وشكلوا نواتها الأساسية خلال الفترة السابقة لتأسيس ساحة التغيير في صنعاء، رآها وهي تلقي بجرحاها وجراحها على الرصيف في نهاية المطاف، بدون أي خجل، ولا تصرف واحد يدل على وجود شيء اسمه الشرف لدى "الحثالة"، "حثالة" التاريخ اليمني التي تقود بلدنا اليوم بعد أن تقاسمت الحكم مع علي عبدالله صالح وحزبه باسم الثورة. كان "خطاب" حاضرا بقوة في قضية جرحى الثورة واعتصامهم أمام رئاسة الوزراء، على الأقل بالنسبة لي، وقد بقينا -هو وأنا- على تواصل خلال تلك الفترة، وكان لافتاً أنه يقاتل بشراسة من أجل توفير أبسط الشروط الممكنة لإنقاذ جرحى الثورة الذين ضحوا بأطرافهم أو بحركة أجسادهم كاملة في ثورة انطلقت في الأساس من أجل الخير والعدالة والكرامة لكل اليمنيين.

أظن أن "خطاب" ساهم بشكل أو بآخر في إنقاذ من تم إنقاذهم (إن كان هناك من تم إنقاذه أصلا)، ولكن ما أنا متأكد منه أنه رأى الكثير منهم يموتون من وطأة جراحهم ومن شدة المرارة والخذلان. رثاهم "خطاب" واحدا إثر آخر في صفحته على موقع "فيسبوك"، حتى آخر "بطل رحل بجراحه"، على حد تعبير "خطاب" في منشوره هذا، أي حتى عبدالرحمن الكمالي الذي يسير في الصورة مبتسماً ورافعا كلتا يديه بـ"شارة النصر"، والذي قال فيه "خطاب" في نهاية منشوره هذا: "رحل عبدالرحمن الكمالي عن الحياة وترك اسمه عنواناً لثورة لا نعرف تاريخها بعد، ولكنها آتيةٌ ذات يوم..".

هذا المنشور، الذي رثى به رفيقه أمس، هو آخر منشور تجدونه في صفحة "خطاب"، إنه آخر منشور كتبه في حياته، ولن يكتب يوما بعده شيئا. فقد التحق "خطاب" برفيقه "عبدالرحمن"، أمس الأربعاء، إثر جلطة مفاجئة، وشيع جثمانه في عدن يوم الخميس (وددت لو أنني كنت هناك لتشييعك يا خطاب).

لم يترك "خطاب الصوفي" مجالا لـ"عبدالرحمن الكمالي" في الابتعاد عنه حتى التحق به، لكأنه ناداه بأعلى صوته حتى استوقفه، ثم ركض باتجاهه، مبتعدا عنا وعن هذا العالم القاسي. ألقوا نظرة على تعليقات هذا المنشور و"خطاب" يتلقى التعازي في "عبدالرحمن" بالأمس، يا الله كم هي محزنة وقاسية تلك الانتقالة في التعزية، من التعزية في وفاة "عبدالرحمن" إلى التعزية في وفاة "خطاب" نفسه!

دخلت صفحة "خطاب"، وضعت "لايك" على آخر منشور كتبه قبل رحيله، وكتبت "إلى عالم الخلد يا خطاب وعبدالرحمن، الى عالم الخلد الذي لا يهيمن فيه أحد على أحد"، ثم بدأت بكتابة ما ورد هنا على مشاركة هذا المنشور القاسي والغريب والمليء حقاً بالحزن.

يا إلهي، كم تبدو الحياة قاسية وغريبة، وكم يبدو الموت مثلها قاسياً وغريباً أيضاً!

* آخر منشور لخطاب الصوفي على صفحته في "فيسبوك"، الأربعاء الماضي:

الأبطال يرحلون بجراحهم:

رحل اليوم واحد من صناع التغيير، مثخناً بجراحه التي أصيب بها في مسيرة الحياة، متضخما قلبه حزناً على ثورته وتضحياته وآماله التي علقها عليها.

رحل والجراحات تملأ قدميه اللتين حملتاه وسارتا به في المسيرات الثورية في شوارع تعز، قدميه اللتين حملتاه حين قطع الجبال والسهول والوديان في رحلة مسيرة الحياة التي مثلت الحدث الأكبر والأهم في ثورة 11 فبراير.

رحل عبدالرحمن الكمالي والمعاناة تملأ نفسه، والغصة عالقة في حنجرته، ودمعتان تحجرتا في مآقيه.

رحل والحب يفيض من روحه، والصمود المتحدي لم يفارقه.

رحل عبدالرحمن الكمالي عن الحياة، وترك اسمه عنواناً لثورة لا نعرف تاريخها بعد، ولكنها آتيةٌ ذات يوم.

عن صحيفة "الاولى"

زر الذهاب إلى الأعلى